جورج فلويد وأهل غزّة

15 مايو 2024
+ الخط -

أثارتْ وحشيةُ تعامل أحد ضباطِ رجالِ الشرطة في مدينة مينابولس، أكبر مدن ولاية مينيسوتا الأميركية، مع المواطن الأميركي ذي الأصول الأفريقية جورج فلويد (46 عاماً)، وسبّبت وفاته في 25 مايو/ أيّار 2020 ردودَ أفعالٍ وتظاهرات داخل الولايات المتحدة، وصلت إلى دولٍ عديدةٍ؛ مثل حراك "حياة السود مهمّة (BlackLivesMatte).

لم تكن القضية لتأخذ أبعادها التي أخذتها بسبب مقتل رجلٍ في أميركا على يدِ شرطي، فهذا اعتيادي في كثير من الولايات الأميركية؛ لكنها كانت الأكثر تقاطعاً مع حقوق الإنسان، وأوّلها "الحقّ في الحياة"، ولأنّ الحادثة صُوّرت تصويراً عرضيّاً من شابة صغيرة في أثناء مرورها بموقعِ الحادث، لأنّها وكما ذكرت للشرطة ووسائل الإعلام لاحقاً، رأت رجلاً مرعوباً يتوسّل الشرطي لإنقاذِ حياته بقوله "لا أستطيع التنفس".

لم يؤدّ مقتل فلويد فقط إلى موجةٍ عالميةٍ من الاحتجاجات ضدَّ العنصرية، بل شهد تضامن كلّ طبقات المجتمع من السياسيين والفنانين والرياضيين، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بحملاتِ "الدعوة إلى العدالة في القصاص من قاتل فلويد" و"حياة السود مهمة" وغيرها. لكن الأهم هو بيان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على صفحته عبر منصّة إكس (توتير حالياً)؛ "لا ينبغي أن يكون ما حدث طبيعيا في أميركا 2020، وإذا أردنا أن ينشأ أطفالنا في بلدٍ يرقى إلى مستوى المثل العليا، فإننا نستطيع القيام بعمل أفضل، بل يتحتّم علينا". أمّا الرئيس جو بايدن، المنتخب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بعد حادثة مقتل فلويد، وخلال محاكمة قاتله، فقد قال على صفحته الرسمية عبر منصّة إكس، إنّه "لا ينبغي أن يكون أحد فوق القانون".

ليست قضيّة جورج فلويد (2021 - 2020) عن تاريخنا الحالي ببعيد، لكن الفارق الأخلاقي والقيمي كبير جداً؛ فالعالم، كلّ العالم، شاهد كيف تعاملت الولايات المتحدة، ودول كبرى عديدة مع عمليةِ قتلِ شعبٍ كامل وتدمير كلّ قدرات (وإمكانات) حقّه في الحياة، شعب تعرّض، وما زال لأعنف عمليات الإبادة ما بعد الحرب العالمية الثانية وأقواها، كلفته نحو 35 ألف شهيد فلسطيني مدني أعزل في قطاع غزّة، وجرح أكثر من 78 ألفاً، وتمّ تدمير أكثر من 70% من البنية التحتية للقطاع.

لا معنى للحق في الحياة عندما يكون أيّ طرف في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي

طوال العمليات العسكرية التي قامت بها إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، ورغم خروج الملايين من شعوبِ العالم من أقصاه إلى أقصاه مطالبةً بإيقافِ قتل المدنيين الفلسطينيين، ورغم نقل وسائل الإعلام عمليات الإبادة الإنسانية التي جرت، وما زالت، على مدار الساعة، بما جعل من عملياتِ إدانة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية واضحة كالشمس، إلا أنّ الرئيس الأميركي، بايدن، ورؤساء دول أوروبية تمسّكوا بتوصيف واحد وهو "حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، واستثنوا بالضرورة حقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة من هذه الحياة، بل خرجت أصوات من مراكز صنع القرار في بعض هذه الدول لمحاسبة حكّام الجنائية الدولية الذي أقرّوا إدانة تل أبيب بجريمة الإبادة الجماعية.

لا معنى لحقّ الحياة عندما يكون أيّ طرف في مواجهة دولة الاحتلال، ليس فقط خلال الحرب الحالية ضدّ قطاع غزّة، بل في كلِّ ما يمتّ إلى هذا المعنى في جميع جوانب الحياة وكينونتها، وكان جديدها أخيراً تهديد الولايات المتحدة بوقفِ تمويل الأمم المتحدة، حال انضمام دولة فلسطين إلى المنظمة الدولية من دون موافقة واشنطن المسبقة، بحسب السفير ورئيس بعثة جامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة، ماجد عبد الفتاح. ورغم اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبيةٍ ساحقة، أي 143 صوتاً مؤيّداً قرارٍ يُوصي مجلس الأمن بإعادةِ النظر في عضويةِ فلسطين إيجابياً، إلّا أنّ واشنطن وإسرائيل مع سبع دول أخرى رفضوا القرار واعتبروه "انتهاكاً واضحاً لميثاق المنظمة".

شعب فلسطين، صاحب الأرض، متّهم الآن من نائب السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، روبرت وود، بأنّه "شعب لا يملك الأرض وفاقد للسيادة وليس لديه أجهزة تنفيذية وتشريعية تؤهله إلى أن يكون دولة"، فكيف لأحكام كهذه، جائرة، أن تسمح باستقرار المنطقة وإفشاء السلام فيها، إذا كان مغتصب الأرض والرافض إعادتها إلى أصحابها بموجب قرارات مجلس الأمن لعام 1967، يتمتّع بأرضٍ ليست أرضه، ويتباهى بقتلِ آلاف من سكانها الأصليين، ويزحف بمستوطنيه نحو المناطق التي حشروا بها شعباً بملايينه الخمسة في مناطق تتنفس عبر شروط دولة الاحتلال، ولا يسمح لها بالتواصل مع العالم إلّا من خلال ما تسمح به تل أبيب. وكما حدث في غزّة فقد شاهد العالم كيف أنّ إسرائيل تملك، إضافة إلى القوّة العسكرية المطلقة من جانب واحد، قرار قطع الهواء والغذاء والدواء والكهرباء عن شعبٍ كامل بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه، فكيف، ومتى، يتصرّف حكّام العالم مع أكثر من مليوني جورج فلويد محشورين في جيبٍ صغيرٍ، اسمُه رفح، ويتطلعون إلى حقّهم في الحياة؟

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن