العرب والغـرب

العرب والغـرب

25 ابريل 2024
+ الخط -

لم يعُد بإمكاننا أن نفكّر في أحوالنا العامة، في السياسة والثقافة، في الحاضر والمستقبل العربيين، من دون استدعاء الآخر/ الغرب بصوَر وصيغ مختلفة. ولا يتعلق الأمر بمجرّد استحضار عارض أو تمثيلي فقط، بل إنه يشكِّل جزءاً من بنية في النظر وفي التاريخ، تشير إلى حروب ومثاقفات، وأنماط من الصراع المادي والرمزي حصلت وتواصل حصولها بأسماء وتسميات جديدة. وهي تحمل اليوم سمات ومظاهر، كثير منها قديم، وبعضها متجاوز، ويحمل بعضها الآخر مواصفات جديدة مرتبطة بشبكة الصراعات المتواصلة، في بدايات العقد الثالث من الألفية الثالثة.

نستدعي هنا، ونحن نفكر في الراهن العربي، زوجاً مفهومياً تَشكّل في القرن التاسع عشر، وفي نهايته بالذات، حيث برزت المعالم الكبرى للمشروع الإمبريالي، مشروع انتقال المجتمع الرأسمالي الصناعي في الغرب الأوروبي، إلى مشروع غازٍ ونَاشرٍ لألويته ولغاته ومعارفه في العالم أجمع. بدأت حكاية الغرب الصاعد، في زمن أدرك فيه العرب جوانب من المسافات التي أصبحت تفصل بينهم وبين أوروبا. وقد نُعِتت المسافات بزوج مفهومي آخر معادل ومرادِف له، التأخر والتقدّم، وما يماثلهما من المرادفات التي نعثر عليها في أدبيات النهضة العربية، ونعثر عليها في مواقف النخب السياسية الغربية التي مهّدت الطريق للغرب الاستعماري وفتوحاته في الشرق وفي الجنوب.

أعادتنا حرب إبادة الفلسطينيين التي تواصل إسرائيل القيام بها منذ سبعة أشهر، بتحالف مُعلَنٍ مع الولايات المتحدة وبعض دول الغرب الأوروبي، إلى ثنائية العرب والغرب، رغم غياب العرب عن دواليب المعركة الجارية، بل وعجزهم عن القيام بأي فعل تجاه ما يقع أمامهم، أي اتجاه جرائم الحرب التي يمارسها الكيان الصهيوني تحت أعين وأسماع الجميع.. استعمل الزوج المفهومي في البداية، لمواجهة مواقف بعض النخب الغربية في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهي نخب منحازة للسردية الصهيونية، وتَمّ تعميمه بعد ذلك في الخطابات السياسية العربية، من طرف بعض المحافظين، لإحياء دعوات رفض الغرب بإطلاق، والتغنّي بأمجاد تراث وماض لا صلة له بأحوال الحاضر وأعطابه وهزائمه وانقساماته، فعدنا إلى التشبث بأوهام كثيرٌ مِنْها يعزّز مآلات ما نحن عليه في الحاضر. وقد تَمّ ذلك في ضوء العودة الجديدة إلى توظيف الزوج عرب/ غرب، في أدبيات الصراع السياسي وحرب الإبادة التي أعلنها الكيان الاستعماري الصهيوني في فلسطين.

جنون الكيان الصهيوني بلغ درجاته القصوى، فقد أصبح سجين أوهام استأنس بها، فغمره الطوفان وأفقده التوازن

أتصوّر أن انخراط الحليف الغربي في البرّ وفي البحر وفي الجو، في مختلف فصول حرب الإبادة المتواصلة، يؤشّر فعلاً على حرب قائمة يقودها طرفٌ واحد، يمارس اليوم التنكيل بالفلسطينيين، بعد أن ركَّب معاهدات في التطبيع مع بعض دول الخليج والمغرب العربي، وبعد أن عطّل مسار التحوّلات التي كانت تعرفها بعض البلدان العربية في المغرب وفي المشرق، فأصبحنا مجدّداً أمام غرب مسلح بكل ما يسعفه بإعداد العدّة المناسبة لمشروع في الشرق الأوسط الجديد! مشروعه في محاصرة الطموح العربي في النهضة والتقدم.

لِنعد إلى حرب استدراج بعض المفاهيم وتوظيفها لتعزيز جرائم الحرب المشتعلة في فلسطين منذ ما يزيد عن سبعة أشهر.. ولأن طوفان الأقصى نجح في إبراز كثير من أوجُه الاستعمار الصهيوني لفلسطين، كما نجح في منح قليل من الوقت للسردية الفلسطينية، سردية مقاومة المستعمر، ومقاومة الغرب الذي احتل قبله أرض فلسطين، ورتَّب الوعود والمعاهدات القاضية بمنحه الأرض والدولة، فإنه لم يتردد في اختيار موقف الدفاع عنه ودعم آلته العسكرية، وتجريب كثير من الأسلحة التي كان يقصف بها العمارة والمدرسة والمستشفى، في حواضر ومخيمات غزة، ويقوم اليوم بمنع المنظمات الدولية، من تقديم بعض المساعدات في التغذية والتطبيب لبعض المصابين بأسلحته.. وقد بدا لنا ونحن نتابع يومياً حرباً عدوانية غير متكافئة، أن جنون الكيان الصهيوني بلغ درجاته القصوى، فقد أصبح سجين أوهام استأنس بها، فغمره الطوفان وأفقده التوازن، ولم يعد يتحكم هو ومن معه من الحلفاء، في تدبير آلة الحرب القائمة بكل جبروتها، دون تفكير في النتائج التي يمكن أن تترتّب عن جرائمه.. وضمن هذا الأفق، تابعت خيوط المعركة الإعلامية التي دشنتها القنوات التلفزيونية الفرنسية، وعكستها الصحافة المكتوبة والمجلات الأسبوعية، حيث فتحت نوافذ الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب لبرنار هنري ﻟﻳﭬﻲ، المُنَاصِر المطلق للسردية الصهيونية، صاحب الكتاب الجديد المعنون "عزلة إسرائيل" (2024).

المواجهة اليوم مكشوفة عربٌ ضد العرب وضد فلسطين، وحراك إقليمي تشارك فيه كل من إيران وتركيا، وغربٌ يباشر مواجهة الجميع

يستغرب المرء من شكل الحضور المتواتر للإعلامي والفيلسوف الفرنسي، في قنوات الإعلام الفرنسي منذ صدور كتابه أخيراً عن إسرائيل، فقد استضافته برامج الأخبار وبرامج الحوار عن الراهن الأوروبي والغربي، وبرامج الحوار المتعلقة بمعركة المقاومة الفلسطينية وما تلاها من حروب الإبادة المعلنة والتي يرتكبها الصهاينة، بغرض تهجير من تبقّوا من الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية. يستغرب المرء أيضاً من قدرات الرجل الهائلة على تحويل المثلث إلى دائرة، ومن قدراته على الكذب والمغالطة والحجاج الفارغ. وإذا كان عنوان كتابه عارياً يؤكّد عزلة إسرائيل الفعلية، رغم كل الحكايات والأباطيل التي صنعت طوال تاريخ غزوها المتواصل واستيطانها الذي لا يتوقف، وطيلة مساعيها الهادفة إلى مزيد من اختراق الأرض العربية، في محيط عربي مُرْهَق بكثير من مظاهر الشلل المُعَطّلة لحركته ولقدراته الإدراكية.. فإن بكائيته الصهيونية، دفعته إلى القول بأن حدث الطوفان غير مسبوق، وأن إسرائيل اليوم على أبواب الانهيار. ومن هنا دعوته الرامية إلى إسناد حرب الإبادة القائمة، لأنها حربٌ تقوم بها إسرائيل وحدها، رغم كل المساعدات والتعزيزات المادّية والحربية التي تلقتها وتتلقاها من الغرب، أن إسرائيل تحتاج اليوم إلى أكثر من ذلك، لأنها في نظره تبادر بصناعة تاريخ جديد، تقودُه وحدها، مُتوخّية تخليص الغرب من الإرهاب!

يمتلك صاحب "عزلة إسرائيل" قدرة عجيبة في الكذب المعلن، يتغنى بالسردية الصهيونية بعد أن يحولها إلى تاريخ فعلي، وهو يدرك أن قوة فعل المقاومة في طوفان الأقصى، تتمثل في استحضارها التاريخي للسردية الفلسطينية بعد أن جرى تغييبها خلال أزمنة التطبيع. ولا نعتقد أن المواجهة الحاصلة اليوم فوق أرض فلسطين تتعلق فقط بحرب إبادة الفلسطينيين، إنها حرب يقوم بها الغرب ويحمل أعلامها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين وضد العرب... المواجهة اليوم مكشوفة عربٌ ضد العرب وضد فلسطين، وحراك إقليمي تشارك فيه كل من إيران وتركيا، وغربٌ يباشر مواجهة الجميع.

 

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".