الجامعات الأميركية والدبلوماسية "العارية"

11 مايو 2024
+ الخط -

تتواصل المظاهرات الطلابية في جامعات أميركية عديدة تشهد احتجاجات واسعة يطالب فيها الطلاب بمقاطعة الشركات والأفراد الذين لهم علاقات مع إسرائيل خلال الحرب على غزّة، والشرطة الأميركية تدهم المباني الجامعية، وتتدّخل بشكل وحشي لتفريقها، وتعتقل طلاباً كثيرين، وتهدّد آخرين بالمغادرة أو الطرد. والمتظاهرون في تحدّ، يواجهون أعمال الضرب والاعتقالات، ويواصلون مظاهراتهم المؤيّدة للفلسطينيين والوقوف في وجه القمع، ورفع شعارات تتعدّى "حلّ الدولتين" إلى استعادة الأرض كلّها. المفارقة، أنّ هذه المؤسّسات التعليمية قطعت علاقاتها مع الجامعات الروسية، عقب غزو روسيا لأوكرانيا، ولم تقطع وتعلّق شراكاتها علاقاتها مع الجامعات الإسرائيلية.

يمكن للاحتجاجات أن تسير بسرعة كبيرة، وتتناول قضايا محلّية أو عالمية في وقتٍ قصير، ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى زيادة الوعي وتحفيز المشاركة الأوسع فيها، بفعل التنظيم والحراك السريع، والتواصل الفعّال والفوري. والقضية الفلسطينية تحظى بتغطية واسعة وتؤثّر في الرأي العام، وتدفع بالضغط على السلطات الجامعية للاستجابة بطرائق معيّنة لمطالب الشباب، الذين نجحوا في جذب الانتباه إلى الجرائم الدولية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة وفي الضفّة الغربية. أهمّية الحراك الطلابي في مركزيته في كبرى المدن الأميركية، وفي مدينة مثل نيويورك، فيها ثاني أكبر تجمّع لليهود في العالم، كما أنّ نسبةً كبيرةً من الطلاب اليهود يشاركون في الاحتجاجات، سواء في جامعة كولومبيا أو في غيرها، وهي رسالة مفادُها بأنّ هذه الاحتجاجات لا يمكن أن تندرج في إطار"معاداة السامية"، وهو تصوّر معيّن لليهود، يمكن أن يتجلّى في كراهية تجاههم (من قال إنّ العرب والمسلمين ليسوا ساميين؟). في حين، يصوّر اليمين المُتطرّف، وجزءٌ من الطبقة السياسية، الجامعاتِ "بؤراً للمتعاطفين مع الإرهاب، وتهديداً للقيم الأميركية الأساسية، مثل حرّية التعبير، وترفع شعارات معادية لإسرائيل". وبالفعل، صوّت مجلس النواب الأميركي على توسيع التعريف المُعتمد في وزارة التعليم لمصطلح "معاداة السامية" على أثر الاحتجاجات، ويتّهم معارضو النصّ أعضاء الكونغرس بالعمل على إقرار هذا التوسيع سريعاً، بغرض استخدامه للحدّ من حرّية التعبير في الجامعات، سيّما أنّ سياسة القمع تساهم في تحوّل المظاهرات الصغيرة إلى حركة احتجاجية في أنحاء البلاد كافّة، وعلى "أرض الحرّية"، وتهدّد بالتوسع داخل النُخب الحزبية الجمهورية والديمقراطية، وتعكس أزمة الثقة التي دفعت الشباب إلى الاعتراض بطريقتهم الممكنة، وهو أمر طبيعي في وجه مجازر إسرائيل المفتوحة.

يؤكّد انتقال الحراك إلى مستوى يطاول المجتمع الأميركي (له تأثير كبير في التجارب التاريخية السابقة) أنّ تغييراً كبيراً يطاول دور الشباب الأميركي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهم أكثر انخراطاً في العملية السياسية، وأفضل تعليماً من الأجيال السابقة، ومواطنون رقميون، وقد لا يعطون أصواتهم للرئيس جو بايدن. والمشهد ينسحب هذه المرّة على السياسة، كما على الاقتصاد، وعلى قضايا فاعلة ومؤثّرة. وهذا يشمل الدبلوماسية "العارية" في الدفاع عن نفسها أمام الطريقة التي يعبّر فيها الشباب وأساتذتهم عن حقوقهم وحرّيتهم في التعبير.

تحوّلت قضية غزّة، والحرب على الفلسطينيين، قضية وقوف الطلاب والشعوب ضدّ الظلم

وتعاني الدبلوماسية في العالم من انتشار التقنيات والتواصلية الحديثة، فلم يعد هناك أسرار، تقريباً، في العالم، الأمر الذي يطرح التساؤل بشأن مسار يعود تاريخه إلى زمن ما قبل الميلاد. لقد قفزت حركة الدبلوماسية قفزة كبيرة منذ مائتي سنة، وعرفت أكثر في القرن العشرين مع دبلوماسية هنري كيسنجر (دبلوماسية الكونكورد). لكنّ التغيير الكبير حصل مع بروز وسائل التواصل والانتقال إلى التكنولوجيا. كان الدبلوماسي هو القادر على الإيحاء، التحدّث، والتعبير، ومن صفاته الهدوء والتواضع، وهو يملك القدرة على الاستماع معظم الوقت، وقادر على جمع المعلومات المفيدة لدولته. ومن الصفات الغريبة والمضحكة، التي يجب أن يتمتع بها الدبلوماسي، قدرته على تناول الطعام مع أيّ شخص، في أيّ مكان وزمان. الدبلوماسية الدولية اليوم "خارج الصحن اليومي"، على درجة عالية من الفشل أمام العالم المعلوماتي المفتوح؛ الأكثر تأثيراً في القرن الحادي والعشرين. حدثت تغييراتٌ مُهمّة في أداء عمل الدبلوماسية منذ ما قبل التاريخ، وحتى دخولها الحيّز الأوروبي (1389-1464)، وإلى مراحل اختراع الطباعة حتّى ظهور التقنيات الحديثة على المستوى الشعبي، امتداداً إلى فضائح و"يكيليكس". أثبتت التغيرات، وآخرها في حرب غزّة، أنّه لم يعد هناك شيء يمكن إخفاؤه عن الأجيال الجديدة. صار التحدّي أكبر. سلطة الطلاب والجامعات في مواجهة سلطة الدولة والأمن، والمعلومات والحقائق في متناول الجميع، وليست موجودة في مكان واحد، وبينها القصص الخاصّة والقصص العامة. والسؤال يدور حول الحاجة إلى الدبلوماسية لمعرفة أسرار الدول الأخرى، وأنّ هناك اليوم مليارات من الأشخاص متصلين بالإنترنت والهواتف الذكية. التطورات التقنية نفسها هي التي عرفتها أوروبا، ومكّنتها في العام 1913، من السيطرة على 60% من العالم، وجني 80% من مقدراته.

ما يحدث في الشرق الأوسط من أوضاع مأساوية كشف ضعف السياسات في عرض القضايا، مثل الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار على المدنيين، وعلى المنكوبين واللاجئين في غزّة ورفح. ويجد الشباب الجامعي مناصرة حقيقية، وأصبحت مطالبهم علمية، وثقافية ومعلوماتية وعالمية. كان هناك من يرى أنّ الهيمنة الأميركية على شبكة الإنترنت ستحد من الديمقراطية في العالم، ومن المستوى الفكري للناس، مع ظهور إقطاعيين/ أباطرة القرن الرأسمالي الجدد، أمثال إيلون ماسك وآخرين. ما يجري في الجامعات، يستحق القراءة بتوازن وواقعية، ويعكس دلالاتٍ صحيّة على أنّ الناس أصبحت أكثر علماً وذكاءً، بينما بات عمدات مدن الدول الكبرى؛ باريس ولندن ونيويورك، يشبهون الدبلوماسية التقليدية.

المعلومات تحرّرت، ومعها تحرّرت الحقيقة من كلّ أطر مرجعية مركزية. ثمّ ما عادت وسائل الإعلام الغربية هي التي تنظّم الإعلام العالمي

تحوّلت قضية غزّة، والحرب على الفلسطينيين، قضية وقوف الطلاب والشعوب ضدّ الظلم، وتكشف ضعف الإدارة الأميركية، التي تعمل على مفهوم قديم من التوازنات، وسط تراجع مؤسّسات الدبلوماسية المعروفة منذ الحرب العالمية الثانية، ومساهماتها في الحفاظ على السلم والأمن، مثل الأمم المتّحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. ويكتشف العالم كلّ ما يعزّز وفرة حظّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحظ الرئيس السوري بشّار الأسد، في بقائهما، وبنيامين نتنياهو في ارتكاب مزيد من المجازر في حقّ الفلسطينيين. ينبغي أن تبقى مثل هذه الاحتجاجات سلمية. أمّا محاولات التصدّي لها بإشاعة فوضى وجرّ الشباب إلى العنف والتطرّف، وعدم إيجاد مسار آخر لوقف التصعيد، فستمثّل مشكلة عالمية، تخسر فيها الدبلوماسية الغربية السيطرة على الشارع وعلى الإعلام.

المعلومات تحرّرت، ومعها تحرّرت الحقيقة من كلّ أطر مرجعية مركزية. ثمّ ما عادت وسائل الإعلام الغربية هي التي تنظّم الإعلام العالمي. عناصر مهمة مقبلة ستحدّد شكل وتطوّر المجتمعات الديمقراطية. الجامعات يمكن أن تعكس وتعزّز القيم والمصالح السياسية والاقتصادية، والتأكّد من أنّ السلام الحقيقي لا يجلب العنصرية والاستغلال والاستعمار، بشكليه الجديد والقديم، في مناطق العالم والشرق الأوسط خاصّة.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.